رواية ظل الحقيقة
المقدمة
"الحقيقة ليست ما نراه، بل ما نخاف أن نراه."
كل فرد فينا يخبّئ خلف ابتسامته ظلًا، وكل ظل يحمل وجهاً لم نجرؤ على تأمله بعد.
كتبت هذه الرواية لأغوص في ذلك العمق الرمادي بين الحقيقة والخداع، بين الذاكرة والنسيان، بين الذات وظلّها.
رواية "ظل الحقيقة" ليست فقط حكاية خيالية، بل هي بحث في هوية الإنسان حين تُختطف، وفي الروح حين تُجبر على الحياة في مدينة بلا وجوه.
هذه رواية تنتمي للقلب قبل الورق، للباحثين عن إجابات لا تُقال، بل تُعاش
---
رواية: ظل الحقيقة
تأليف: محمد أحمد
الفصل الأول: مدينة بلا وجوه
في الركن البعيد من هذا العالم، حيث لا تصل إشارات الراديو، ولا تسكن ذاكرة الخرائط، كانت هناك مدينة تُدعى “الظل”. لم يُدوّن اسمها في كتاب، ولم يتحدث عنها أحد، لا في نشرات الأخبار، ولا في قصائد الشعراء. مدينة باردة كجدار الصمت، جامدة كتمثال، مسكونة بأرواح تمشي على هيئة بشر.
الناس فيها يسيرون بلا ملامح، وجوههم كما الأقنعة، عيونهم ميتة وإن انفتحت، شفاههم مغلقة حتى لو تحرّكت، وأصواتهم لا تعلو فوق همسات الهواء. لا ضحك، لا بكاء، لا أسئلة. فقط دورة حياة معلّبة: ولادة صامتة، عمل بلا روح، وموت لا يُبكي عليه أحد.
وُلد سامر في هذه المدينة. أو هكذا قيل له.
استفاق في صباحٍ رمادي داخل غرفة معدنية الجدران، على سرير حديدي، وبجوار نافذةٍ تطل على شارعٍ لا يتحرك فيه شيء سوى الريح. لا يتذكر من هو، لا أسماء، لا ماضٍ، فقط اسمه الذي كُتب على سوار جلدي في معصمه: "سامر".
كل يوم، كان يستيقظ في الساعة السادسة تمامًا، يرتدي ثوبًا رماديًا موحّدًا ككل الناس، ويتوجه إلى العمل في "مكتبة المدينة العامة" — بناء ضخم كئيب، مليء بالكتب التي لم يقرأها أحد منذ سنين. كان وحيدًا هناك، باستثناء زائر واحد يأتي كل خميس عند الظهر: رجلٌ مسنّ يُدعى "الشيخ نادر".
الشيخ نادر كان مختلفًا عن الجميع. يلبس عباءة داكنة، وعيناه تشعان بشيء غامض يشبه الحنين. لم يكن يتكلم كثيرًا، لكن كل مرة يُلقي جملة واحدة:
> "حين ترى ما لا يجب أن تراه، ستعرف من تكون."
وكان يمضي. لا أكثر.
في أحد الأيام، وبينما كان سامر يرتب رفوف الكتب العليا، سقط كتاب ثقيل من أعلى الرف، لم يكن مألوفًا، لا يشبه بقية الكتب، غلافه أسود مطفأ، دون عنوان، والرمز الوحيد عليه كان دائرة محفورة بعناية، تتوسطها عين نصف مفتوحة. ارتعشت أصابعه وهو يفتحه، وإذا بأول صفحة تكتب:
> "هذه المدينة ليست لك، بل أنت صنيعتها. اقرأ، لكن احذر أن تصدق كل ما يُقال."
تتابعت الصفحات كأنها لا تنتمي لعالمه. حكايات عن اختفاء الذاكرة، وعن بشر يعيشون في ظل وعي مزيف، عن "الظل" التي تحبس الوعي وتمنحك هوية مصنوعة، وعن "المنارة" — ذلك المكان المحظور خارج حدود المدينة، الذي قيل إنه يحوي الحقيقة.
منذ قراءته لذلك الكتاب، تغيّر شيء ما في داخله. الأصوات بدأت تتسلل إليه في الليل، أصوات لا يسمعها غيره. رأى في حلمه فتاةً غريبة بعيون خضراء تهمس:
> "لا تصدق ما ترى، سامر… أنت أكثر من مجرد ظل."
استيقظ في اليوم التالي فزعًا، وذهب إلى الشيخ نادر. لأول مرة، نظر الشيخ إليه مليًا وقال:
> "لقد فتحته… لم يكن من المفترض لك أن تراه، ولكن الآن لا مفر. سيبدأ كل شيء من جديد."
سأل سامر بشفاه مرتعشة: "من أنا؟"
أجابه الرجل:
> "أنت الكلمة التي حُذفت من جملةٍ خافتة. والآن، يجب أن تبحث عنها."
انتهى الدوام، وعاد سامر إلى غرفته. لكن المدينة لم تعد كما كانت في عينيه. صار يلاحظ الوجوه… أو غيابها. صار يسمع نبض الحياة تحت الأرض. صار يشك.
وفي تلك الليلة، طرق بابه شخص لم يره من قبل. فتاة بملامح بشرية حقيقية، ليست كبقية سكان الظل. نظرت إليه بعينين فيهما وهج، وقالت:
> "أنت لست واحدًا منهم، وسأُثبت لك ذلك… اتبعني، لو أردت أن تعرف من أنت حقًا."
وانتهى اليوم الأول من يقظة سامر… وبدأت الرواية.
---
---
الفصل الثاني: المرآة الملعونة
كان الليل في مدينة الظل لا يُشبه ليل المدن الأخرى. لم يكن للنجوم فيه سطوع، ولا للقمر اكتمال. السماء قاتمة دائمًا، كأنها غطاء أسود يخفي شيئًا فظيعًا خلفه. وعندما خرج سامر خلف تلك الفتاة، لم يكن يعلم أنه بدأ السير في طريق لا رجعة منه.
كانت الفتاة تمشي بخفة وسط الأزقة الخالية، كأنها تعرف المدينة من قلبها. كل شيء فيها بدا مختلفًا: وجهها كان واضح المعالم، عيناها ناطقتان، وابتسامتها تحمل دفئًا لم يشعر به سامر منذ وُجد في هذا المكان.
"اسمي جُود،" قالت وهي تلتفت إليه، "وأنا مثلك… نجوت من المسح."
"المسح؟" سأل بدهشة.
"العملية التي تُعيد تشكيل وعيك… تمحو ذاكرتك، وتبني لك هوية جديدة. سكان المدينة جميعهم مرّوا بها. لكنك… انقطعت العملية عليك، وهذا ما جعلك تشعر بشيء ناقص. لذلك تقرأ، لذلك تحلم، لذلك تسأل."
دخلت به إلى بناءٍ مهجور على أطراف المدينة، بدا كأن أحدًا لم يدخله منذ سنوات، لكن الغبار فيه كان نظيفًا، والهواء يحمل عبقًا خفيفًا كأنه حديث عهد بالحياة.
في منتصف الغرفة وُضعت مرآة ضخمة، محاطة بإطار من الحديد المشقوق، متآكل الأطراف. لم تكن مرآة عادية، لم تعكس الضوء، بل بدت كأنها تمتصّه.
"هذه المرآة ليست لما تراه، بل لما لا تراه،" قالت جود، "انظر فيها، لكن احذر… لا تتكلم وأنت تنظر. مهما رأيت، لا تتكلم."
اقترب سامر منها، ونظر.
في البداية، رأى انعكاسه الطبيعي. وجهه الشاحب، شعره الأسود، عيونه التائهة. لكنه بعد ثوانٍ، بدأ يرى صورًا تتبدل بسرعة: طفلاً يبكي في زنزانة، أمًا تصرخ في وجه رجل يرتدي معطفًا أبيض، رجالًا بأقنعة يضعونه في آلة معدنية… ثم ظلام.
ثم… عينه.
تجمّدت أطرافه. في تلك اللحظة، رأى نفسه يفتح عينيه في ذات الغرفة التي بدأ منها كل شيء، لكن هذه المرة، لم يكن وحيدًا. كانت هناك نسخة أخرى منه، مطابقة، تحدّق فيه. قال الصوت في رأسه:
> "أنت لست سامر، أنت الأصل. وهم صنعوا النسخة."
ارتجّ كيانه. سقط أرضًا، وتقطّعت أنفاسه. نظرت إليه جود، ووضعت يدها على كتفه:
"المرآة لا تكذب، لكنها أيضًا لا تقول كل الحقيقة… ستعرف الباقي، حين نصل إلى المنارة."
"المنارة؟"
"نعم، حيث يُخزَّن كل وعي مسروق، وكل ذاكرة مسروقة. إذا أردت أن تعرف من أنت… يجب أن نذهب إليها."
في الخارج، بدأ هواء المدينة يختلف. كأن شيئًا ما يشعر بتمرد سامر، كأن النظام بأكمله يستيقظ للقبض عليه.
"الوقت ضيق،" قالت جود، "من الآن فصاعدًا… كل شيء سيطاردك: الأمن، النظام، وحتى ظلك."
وقبل أن يغادروا، نظرت جود إلى المرآة مرة أخيرة، وقالت بهمسٍ لم يسمعه سامر:
> "ليتني كنت قادرة على نسيان ما رأيت…"
---
---
الفصل الثالث: الأصوات التي لا تنام
منذ تلك الليلة، بدأ سامر يسمعها بوضوح… الأصوات.
لم تعد همسات خافتة في الحلم، بل صارت تتسلل إلى وعيه في كل لحظة صمت. كانت تتحدث بلغاتٍ غريبة أحيانًا، وأحيانًا بصوته هو، لكن الأغرب أنها كانت تعرف ما يفكر به قبل أن يقوله. وكأن هناك عقلًا آخر يسكن داخله، مراقبًا، محللًا، متربصًا.
"المنارة" كانت هدفهم. لكن الوصول إليها لم يكن أمرًا بسيطًا. المدينة مبنية بحلقاتٍ دائرية، كلما اقتربت من مركزها زادت الرقابة، وكثرت الحواجز. وكان مركز المدينة محاطًا بجدرانٍ إلكترونية لا يمكن عبورها إلا بشيفرة لا يملكها إلا من يُطلق عليهم "الحُراس".
قالت جود وهي تسير بجانبه في الأزقة الخلفية:
"الأصوات التي تسمعها ليست هلاوس. إنها آثار الذاكرة القديمة… قبل أن تُمحى. بعضنا يسمعها، قلة قليلة فقط."
"وهل أنتِ من هذه القلة؟" سألها.
أجابت بصوتٍ متعب:
"كنت. حتى فقدت القدرة على التمييز بيني وبينهم."
في الليل، دخلا مخبأً سريًا يقع أسفل محطة الطاقة المهجورة. هناك، التقى سامر بأول شخص غير جود يبدو… حيًا.
رجل أصلع، له لحية خفيفة وعين واحدة، يُدعى "خالد". كان يحمل جهازًا أشبه بالراديو، لكنه يبث ترددات لا يسمعها البشر العاديون.
"ما هذا؟" سأل سامر.
أجاب خالد:
"جهاز التقاط الوعي. كل فكرة نُسخت، كل حلم سُرق، كل خوف تم زراعته فيكم… يخرج من هذه الترددات. الأصوات التي تسمعها؟ هي أنت، لكن من زمنٍ مختلف. ذاكرةٌ مشفرة في الهواء، تبحث عن جسدٍ يُعيدها للحياة."
اقترب سامر من الجهاز. فُتح فيه تسجيل تلقائي، خرج صوت طفل يقول:
> "أنا سامر… أرجوكم لا تطفئوا النور… أنا خائف."
تراجع، تجمد جسده. "هل كنت أنا؟"
أجاب خالد:
"ذلك أنت قبل أن تُعاد برمجتك. قبل أن تصبح ظلًا."
جود وضعت يدها على كتفه وقالت:
"لديك خياران الآن، إما أن تواصل السير نحو المنارة وتستعيد ذاكرتك… مهما كان الثمن، أو تبقى هنا، في الظل، وتنسى من جديد."
نظر سامر إليهما، ثم إلى الجهاز، ثم قال بصوتٍ لم يعرف أنه يملكه:
"سأذهب. أريد أن أعرف من أكون، حتى لو متّ في الطريق."
في الخارج، كانت المدينة بدأت تغلق حلقاتها. حراس بملابس سوداء، عيون حمراء إلكترونية، وأسلاك تتدلّى من ظهورهم كأنهم نسخ معطّلة من بشر.
قال خالد:
"من هنا تبدأ المطاردة… ولن تنتهي إلا عند المنارة، أو عند قبرك."
---
---
الفصل الرابع: مدينة النسخ
الطريق إلى المنارة لم يكن طريقًا فيزيائيًا فقط، بل عبورًا داخليًا أيضًا. فكل خطوة نحوها كانت تمزق غشاءًا رقيقًا من الزيف في وعي سامر. المدينة بدأت تتكشّف عن وجهها الحقيقي. الجدران التي كانت تبدو من حجر، كانت في الحقيقة شاشات عرض تتحكم بما تراه. السماء، ليست سماء… بل قبة رقمية تحجب الواقع.
قالت جود:
"وصلنا إلى حدود مدينة النسخ… هنا يتم تصنيع الذوات البديلة. كل شخص رفض الخضوع، تمت محاكاته… وزُرعت نسخته في النظام."
كانت البوابة أمامهم ضخمة، تقف كتمثالٍ غاضب. دخلوها خلسة، عبر نفقٍ تحته يملؤه الماء والرماد. وهناك… رأى سامر أول نسخة منه.
كانت مربوطة إلى جهاز، مفتوحة العينين، لكنها بلا روح. حولها نسخ متعددة: جود، خالد، أطفال… مئات الأجساد المكرّرة، موصولة بأنابيب، تُحقَن بذكريات مصنّعة.
قال خالد:
"هذا هو السر… لم يكونوا يمحون الوعي، بل ينسخونه. ويستبدلونه. النسخ تُستخدم لمراقبة الأصل، لترويضه، أو لإعدامه حين يتمرّد."
شعر سامر كأن الكون ينهار حوله. كل ما عرفه، كل من وثق بهم، كل فكرة آمن بها… كانت ملفًا قابلًا للتعديل.
ثم اقتربوا من مركز المنارة.
برج هائل يطعن السماء الصناعية، ينبض بالضوء كقلبٍ اصطناعي، وفي قمته… غرفة صغيرة اسمها "الخازن". وهناك، وجد سامر آلة تشبه التابوت، يخرج منها ضوء أزرق، وصوت أنثوي يقول:
> "مرحبًا بك، وعيك محفوظ. هل ترغب في استرجاع النسخة الأصلية؟"
قال بصوتٍ متهدج:
"نعم."
أُغلق التابوت عليه. وعندما استعاد وعيه… لم يعد كما كان.
عاد إليه كل شيء. أمه، الغرفة، المدرسة، التجارب، الصراخ، الألم… ثم قرار الهرب. اكتشف أنه لم يكن ضحية فحسب، بل كان مهندس النظام نفسه. هو من كتب أول كود للآلة. لكنه عندما رأى نتائجها، حاول تدميرها… فقام النظام بنسخه، ومحو ذاكرته، ورميه في قلب مدينة النسخ، ليتوه.
فتح عينيه، فوجد جود تبتسم وتقول:
"أهلاً بك يا سامر الحقيقي."
سألها:
"ومن أنتِ؟"
قالت وهي تختفي تدريجيًا:
> "أنا النسخة… وكان دوري أن أوقظك."
صرخ:
"جود! لا تذهبي!"
لكنها ذابت مثل وهمٍ رقيق، وتركته واقفًا في قمة المنارة، يعرف الحقيقة، ويملك القرار.
ثم أدار النظام بيده، وضغط زر “تحرير”.
وفي لحظة… انهارت المدينة.
النسخ تحرّرت، الجدران تساقطت، النظام فقد السيطرة.
خرج سامر، يمشي في عالمٍ بلا سقفٍ اصطناعي، بلا أصواتٍ تراقبه، بلا خوف. فقط هو… وذاكرته.
---
الخاتمة: يقظة الذات
في النهاية، لم يكن سامر يحارب نظامًا خارجيًا فقط… بل ذاته المغلقة، تلك التي اختارت الأمان مقابل الحقيقة. لقد علّمه الطريق أن الوعي لا يُمنح، بل يُنتزع.
كل لحظة سؤالٍ كانت خطوة نحو النور، وكل وجعٍ كان ضوءًا يخترق الظلام.
ولأنّه استيقظ… أصبح حرًا.
ربما لن يفهم العالم من حوله، وربما سيتّهمونه بالجنون، لكنه يعرف الآن:
> أن تكون ذاتك، ولو ضد العالم، خير من أن تكون نسخة مكرّرة في مدينةٍ نائمة.
وهكذا…
اختفى سامر في الأفق، رجلٌ تخلّى عن الزيف، ليحيا الحقيقة.